فصل: من فوائد الشعراوي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)}.
كل من زين الكفر والعصيان لغيره سيتبرأ من كل من زين لهم معصية الله والشرك به، حتى الشيطان؛ العمدة في إغوائهم سيتبرأ منهم، وسيقول ساعتها: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} من الآية 22 سورة إبراهيم.
فلن يستطيع الشيطان أن ينقذ أحدا من المشركين، ولن يصرخ فيأتي له المشركون لإنقاذه، وإن صرخ المشركون؛ فلن يأتي لهم الشيطان لينقذهم، وسيتبرأ كل منهم من الآخر، وسيتبرأ الكافرون من كل من زين لهم الشرك بالله، أو سيقول الكافرون لمن زينوا لهم الشرك بالله: نحن أبرياء منكم ولا علاقة لنا بكم.
وجاءت الآية بالذين اتبعوا أولا لأنهم المفتون فيهم، ثم جاءت بالذين اتبعوا من بعد ذلك، إنهم يرون العذاب وتتقطع بهم الأسباب، وأصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، والشيطان نفسه يعترف بأنه لم يكن صاحب سلطان إلا بأن ناداهم، فمن استجاب له، جيء به إلى هذا المصير، والسلطان إما أن يكون سلطان حجة، وإما سلطان قهر، ولم يكن للشيطان سلطان قهر على الكافرين، ولم يكن له إلا عمل واحد بلا سلطان، وهو أن دعاهم إلى الشرك بالله؛ فاستجابوا له. فماذا يحدث عندما تتقطع بهم الأسباب؟
إن الحق سبحانه يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
إن تبرؤ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا لن ينفعهم، وتمنيهم أن تكون لهم كرة- أي عودة- ليتبرأوا منهم لن يجدي، ويريهم الله أعمالهم- التي سبقت- حسرات عليهم. ولا تكون الحسرة إلا إذا أصيب الإنسان بمصيبة لا منأى من النجاة منها.
{وما هم بخارجين من النار} أي لن ينفعهم ندمهم على ما سبق من أعمالهم السيئة، ولن يجدي هذا الندم في إخراجهم من النار.
ويقول الحق من بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله} قال: مباهاة ومضارة للحق بالأنداد {والذين آمنوا أشد حبًا لله} قال: من الكفار لآلهتهم.
وأخرج ابن جريرعن السدي في الآية قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمر، وهم أطاعوهم وعصوا الله.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا} أي شركاء {يحبونهم كحب الله} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله {والذين آمنوا أشد حبًا لله} قال: من الكفار لآلهتهم أي لأوثانهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {يحبونهم كحب الله} قال: يحبونهم أوثانهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من الكفار لأوثانهم.
وأخرج ابن جرير عن الزبير في قوله: {ولو ترى الذين ظلموا} قال: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم، لعلمتم أن القوة كلها إليّ دون الأنداد، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا ولا تدفع عنهم عذابًا، أحللت بهم وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفرني، وادعى معي إلهًا غيري.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد قال: كان في خاتم {أن القوة لله جميعًا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا} قال: هم الجبابرة والقادة والرءوس في الشر والشرك {من الذين اتبعوا} وهم الأتباع والضعفاء.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا} قال: هم الشياطين تبرأوا من الإِنس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} قال: المودّة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} قال: المنازل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} قال: الأرحام.
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} قال: الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا والمودة.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب} قال: الأعمال.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع {وتقطعت بهم الأسباب} قال: أسباب المنازل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {وتقطعت بهم الأسباب} قال: أسباب الندامة يوم القيامة، والأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون بها، فصارت عداوة يوم القيامة يلعن بعضهم بعضًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة} قال: رجعة إلى الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} يقول: صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وما هم بخارجين من النار} قال: أولئك أهلها الذين هم أهلها.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الأوزاعي قال: سمعت ثابت بن معبد قال: ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت {وما هم بخارجين من النار}. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {وإلهكم إله واحد} ورد الخبر خاليا من التأكيد، مع أن من الناس من ينكر وحدانية الله، تنزيلا للمنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن بين أيديهممن البراهين الساطعة، والحجج القاطعة، ما لو تأملوه لوجدوا فيه غاية الإقناع.
2- {لآيات} التنكير في آيات للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على قدرة قاهرة وحكمة باهرة.
3- {كحب الله} فيه تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه.
4- {أشد حبا لله} التصريح بالأشدية أبلغ من أن يقال: أحب الله كقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} مع صحة أن يقال: أو أقسى.
5- {ولو يرى الذين ظلموا} وضع الظاهر موضع الضمير ولو يرون لإحضار الصورةفي ذهن السامع، وتسجيل السبب في العذاب الشديد، وهو الظلم الفادح.
6- في قوله: {رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} من علم البديع ما يسمى بالترصيع وهو أن يكون الكلام مسجوعا، من غير تكلف ولا تعسف.
7- {وما هم بخارجين من النار} الجملة اسمية وإيرادها بهذه الصيغة لإفادة دوام الخلود. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
قولُهُ تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ} في {إِذْ} ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنها بدل مِنْ {إِذْ يَرَوْنَ}.
الثاني: أنها منصوبةٌ بقوله: {شَدِيدُ العَذَابِ}.
الثالث- وهو أضْعَفُها- أنها معمولةٌ لاذكُرْ مقدَّرًا، و{تَبَرَّأَ} في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه، والتبرُّؤ: الخُلُوص والانفصالُ، ومنه: بَرِئْتُ مِنَ الَّذِينَ وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله: {إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] والجمور على تقديم: {اتُّبِعُوا} مبنيًا للمفعول على {اتَّبَعُوا} مبنيًا للفاعل.
وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس، وهما واضحتَانِ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ.
قوله تعالى: {وَرَأَوا العَذَابَ} في هذه الجملة وجْهان:
أظْهَرُهما: أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف، تقديرُهُ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، وإِذْ رَأَوا.
والثاني: أنَّ الواو للحالِ، والجملة بعدها حاليَّةٌ، وقد معها مُضْمَرَةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ، {تَبَرَّأَ} أي: تَبَرَّءُوا في حال رُؤْيتهم العَذَابَ.
قوله تعالى: {وتَقَطَّعَتْ} يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف، وأن تكون للحالِ، وإذا كانت للعطف، فهل عطفت {تَقَطَّعَتْ} على {تَبَرَّأَ} ويكون قوله: {وَرَأَوا} حالًا، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على {رَأَوْا}؟ وإذا كانت للحال، فهل هي حالٌ ثانيةٌ ل {الَّذِينَ} أو حالٌ للضَّمير في {رَأَوا} وتكونُ حالًا متداخلةً، إذا جعْلنَا {ورَأوا} حالًا.
والباءُ في {بهم} فيها أربعةُ أوْجُه:
أحدها: أَنَّها للحالِ، أي: تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو: خَرَجَ بِثِيَابِهِ.
الثَّانِي: أن تكُونَ للتعديَة، أى: قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول: تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ، أي: فَرَّقَتْهُمْ.
الثالث: أن تكون للسببيّة، أي: تقطَّعت بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ.
الرابع: أن تكون بمعنى عَنْ أي: تقطَّعت عنْهُم، كقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، أي: عنهُ وكقول علْقَمَةَ في ذلك: الطويل:
فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي ** بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ

أي: عن النِّسَاء.
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا}، يعني: الأَتْبَاع: {لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً} أي: رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ: العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرًّا؛ قال القائل في ذلك: الوافر:
أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي ** أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا

قوله تعالى: {فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} منصوبٌ بعد الفاءِ بأنْ مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ {لَوْ} ولذلك أجيب بجواب لَيْتَ الذي في قوله: {يا ليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ: أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ {لَو} الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر: الوافر:
وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ** فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ

وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله: الوافر:
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْنًا ** وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ

واستدلَّ أيضًا بأنَّ أَنْ تُفْتَحُ بعْد {لَوْ}؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله: الرجز:
يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ ** حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ

وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ: أَنَّ النُّحاة قالُوا: كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار أنْ بعد الفَاءِ إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضًا؛ فيقال: وإلاَّ في جواب التَّمَنِّي بلَوْ؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار أَنْ بعد الفاء الواقعة جوابًا له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ لم يُجزم.
قال أَبُو حَيَّانَ والسَّبب في ذلك: أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو لَيْتَ والجزمُ في جواب لَيْتَ إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلالَتها على كونه محذوفًا على اختلاف القولَيْن؛ فصارت لَوْ فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ: {لَوْ} في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب بأَنْ مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو {كَرَّة} والتقديرُ: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فنتبرَّأَ} فهو مِنْ باب قوله: الوافر:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي

ويكون جواب {لَوْ} محذوفًا أيضًا؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى: {فَنَتَبَرَّأَ} منصوبٌ بإضمارِ أَنْ، تقديره: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ} فحلَّ {كرَّة} إلى قوله: أَنْ نَرْجِعَ؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْمًا صَرِيحًا غير مَصْدر؛ نحو لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى: {كَمَا} الكافُ في موضعها نصبٌ: إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي: {تَبَرُّؤًا} وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي نتبرّأهُ، أي: التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهًا لِتَبَرُّئِهِمْ؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة: الكاف في قوله: {كَمَا} في موضع نصب على النَّعت: إمّا لِمَصدرٍ: أو لحال، تقديره: مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان.
أمَّا قوله: لِحَالِ تقديرُهُ: مُتَبَرِّئِينَ كما فغيرُ واضحٍ، لأنَّ ما مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال ومُتَبرِّئين: من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال: وأَيضًا لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالًا مؤكِّدة، وهي خلافٌ الأَصل، وأيضًا: فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله} في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنَّ موضعها نصبٌ: إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ، أي: يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْرًا كَذَلِكَ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني: أن يكون في موضع فرع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ: مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل: الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ: كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.
أحدهما: أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني {أَعْمَالَهُمْ} و{حَسَرَاتٍ} على هذا حالٌ مِنْ {أَعْمَالَهُمْ}.
والثاني: أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُهما {حَسَرَاتٍ} و{عَلَيْهِمْ} يجوزُ فيه وجْهَان:
أن يتعلَّق ب {حَسَرَاتٍ}؛ لأنَّ يحْسَرُ يُعدَّى بعلى ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ.
أي: على تَفْرِيطهِمْ.
والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنّضها صفةٌ ل {حَسَرَاتٍ}، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ.
والحَسْرَة واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهَوَاتٍ.
هذا إذا كان اسمًا.
فإنْ نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي رحمه الله تعالى قال الزَّجَّاج: هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم: بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أو من الحسر وهو الكشف يقال: حسر عن ذراعيه، والحسرة: انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ والمحسرة المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش. اهـ. باختصار.